رشة ورد -

صلي على النبي صل الله عليه وسلم
 | موضوع: جزرة بِلادي ، أقصوصةُ ستروى كثيراً ! السبت 8 سبتمبر - 10:41 | |
| 
+ " سُوريا هِي بلادنا ، لا داعي لأن تجري فينا دماؤها لتكون أصلنا ، يكفينا أنّها تشاركنا أصلاً بشرياً واحدا ! "
- -
قَالت :
لَم أكن مطالبةً بالكثير أبداً ، كَانت أكبر أحلامِي أن أنشئ عائلةً صغيرة ، فامتلكتها و كما أردت تماماً ، زوج محبٌ و أبٌ حانٍ ، طفلان صَغيران أحملهما بين يدي في صغرهما ، أقبلهما كُل مساءٍ ، و أصُبح عليهما كل صباح ، أهمس لهما في أكثر لحظاتهما ضعفاً بأنني سأكون دوماً بالقرب ، أقف دوماً بصفهما في مفترق الطرق ، أحاول ارشادهما للصواب لكي لا أرى أحدهما يتعثر ، أمسك بيديهما عند عبور الشارع خوفاً من أن يمسهما ضررٌ لا أكون قادرةً على احتماله ، أدافع عنهما أمام كل شر ، و أدفعهما لكل خير ، كَانت تلك اهتماماتي ، أن أدللهما كما أشاء دون أن يمتلك أحدٌ القدرة على منعي ، فهم أطفالي أنا ، و وُضِعت يـآء الملكية هناك لسبب ،
،.
وَ من ثّم جاء يومٌ لَم يكن في الحسبان ، يومٌ أخذ مني أحلامي ، صغيرةً كانت أم كبيرة ، يومٌ أخذ مني كُل شيء ، ولكنه لم يأخذني بعد ، في اليوم الخامس عشر من شهر مارس بدأت حياتي بالانهيار ، كَان ذا اليوم هُو اليوم الذي قرر فيه شعب دولتي الانقلاب على قائدهم ، بحثاً عمّا يلقبونه بالـ حرية ، لم أكن أعي في السياسة كثيراً ، ولكنني كُنت أعلم ما معنى الظلم ، و أخبروني بأن تلك الكلمة كانت معنىً مضاداً له ، كانت المخططات تخطط في حينا قبل ذا اليوم بعدة أسابيع ، زوجي كَان شخصاً اندفاعياً ثورياً محباً للدفاع عن القيم ، فكان من أول المشتركين من حينا ، كَانت الخطط تعقد في الشارع المقابل لمنزلي ، كنت أنا و نسوة الحي نختبئ خلف الأبواب نتنصت على أحاديثهم بكل سعادة ، سننتصر على الظالم ، و سننشئ وطناً أفضل لأبنائنا ، كَانت بداية ثورتنا حالمةً جداً ، كل أعلامنا و احتجاجاتنا لَم تكن سوى أقمشةٍ كتبنا عليها أحلاماً ننتوي تحقيقها ، أحلاماً نأمل في أن نجعلها واقعاً نحياه ،
وَ من ثم أتى اليوم الـ خامس و العشرين من شهر أبريل ، كَان هذا تاريخ أول يومٍ بدأت فيه عمليات الجيش العسكرية ، كَان ذَا أول يومٍ نعي فيه حرباً بدأناها ، أول يومٍ تبكي فيه أمٌ ابنها ، أول يومٍ يبكي فيه فتىً وفاة أبيه بطلقة رصاصٍ اخترقت صدره ، أول يومٍ بدأت فيه حربنا ، كَان زوجي حانقاً جداً ، لما حدث ، واصل إخباري طيلة ذلك الأسبوع عن حلمه الذي سيحققه إكراماً لجثثهم ، و أنه هو و من معه سيجعلون وفاة هؤلاء الأشخاص شيئاً يذكر للأبد ، كُنت خائفةً حينها ، ولكنني كُنت طموحةً جداً ، كنت أودع زوجي و ابني كل صباحٍ بابتسامة مرتعدة ، و أرحب بهم كل مساءٍ بسعادةٍ غامرة ، بدمعٍ يتساقط رغماً عني ،
فقد عادوا إليّ سالمين ، حتى ابنتي مع صغر سنها إلا أنّها كانت واعيةً لما يحدث ، كانت تركض لأبيها كل صباح تودعه بابتسامة و كأنّها عالمةٌ بأنّه سيذهب لينشئ لها وطناً جديداً ، مَضت الأشهر على ذات الحال ، نصحوا كل يومٍ على صوت طلقات الرصاص ، و نغفوا عليها أيضاً ، تكاثر عدد القتلى ، فحَسبما أشاع الإعلام ، في شهر يوليو ، بات عدد القتلى في الأسبوع 300 قتيل ، أي ثلاث مئة عائلةٍ تبكي فقداها كل يوم ،
و لم تعد ثورتنا ثورةً قوية ، و إنّما ثورةٌ ثائرة ، تبحث عمّن قَام بقتل ثوّارها لتلتهمه ، بلغ عدد القتلى في حينا عدداً ليس بقليل ، صوت نواح الأمهات بات يتعالى خلف كل باب ، و بت أغفو كل يومٍ آملةً بأن لا أكون يوماً في محل إحداهن ،
،.
كُنت أراني محظوظةً جداً ، لَم أفقد أياً من عائلتي بعد ، كُنت خائفةً جداً من ذلك ، كُنت أواصل محادثة زوجي محاولةً إرغامه على الانسحاب ، فلم تعد هذه حرباً لما هو منافٍ للظلم ، بل أصبحت حرب إثباتٍ لظلمٍ عشناه منذ القدم ، و لم أعد أتمنى أن أكون جزءاً منها ، هي حربنا ، هي حرب شعبنا ، و ستنتصر و أنا واثقةٌ من ذلك ، ولكنني لن أنتظر ألى أن يخلو موطني من المواطنين لأشعر بفرحة الانتصار ، لم اعد أريد تلك الفرحة ، كل ما أريده هو أمناً و آماناً !
،,
مضى عامٌ على بداية كل شيء ، لم تعد هممنا كما كانت حين بدأنا ، انقسم معظم من حولي الى فاقدين و مفقودين ، وَ لم يكن بوسعنا القيام بأي شيءٍ سوى البقاء في منازلنا ، نحتضن من تبقى لنا من الأبناء و نواصل الدعاء لمن هم بالخارج بالعيش ،
حتّى جاء اليوم السادس و العشرون من مايو ، كَان زوجي قد أخذ طفليّ معه خارجاً ليتجرع منهم بعضاً من الأمل و روح الحياة ، كُنت نائمةً حِين أيقظتني صرخات العديد من أمهات الحي المفاجئة ، نهضتُ بسرعةٍ و اتجهت الى باب المنزل و إذا بأحدهم يطرقه بقوةٍ ، فتحت الباب لأجد ابن جارتي يبكي و يرتعد أمامي ، سألته : ما بك ي بني ؟ - قتلوه ي خالة .. - قتلوا من ي عزيزي ؟! - قتلوه ، أردوه برصاصةٍ أمام الملأ خفت عندها كثيراً ، خشيت أن يكون أباه من أُردي ، جلست بجانبه و احتضنته بقوة ، ولكنه كان يحاول دفعي بشتى الطرق ، سألني بصوتٍ تملؤه العبرة : ألاتريدين رؤيته ؟ - من تقصد ي عزيزي ؟ - ابنك ي خالة صدمت حينها حدّ أن قلبي رفض أن يشعر بتلك الكلمات ، ركضت نحو صوت الطلقات بصمتٍ تام ، حتّى وصلت الى حيث حدث ما حدث ، كَانت الأرض ممتلئةً بالجثث ، العديد من الأطفال القتلى ، و العديد من الأمهات النائحات ، لم أكترث حينها ، كنت أبحث عن ابني و فقط ، بت أجول بين الجثث ، أين هو ي ترى ، وجدته ، نعم ! هاهو ذا !
بُني ! بُني أجبني !" بُني ، أرجوك أجبني ، بُني ، لِم تأبى الإجابة علي ؟! أعلم بأنني كُنت أماً سيئة ، لم يكن من المفترض أن أتركك ترحل مع أبيك أبداً ، ولكن هلّا غفرت لي و حادثتني ؟ أعدك بأنني لن أخطئ مجدداً ، سأكون أماً أفضل يا بني ، سأسمح لك بالذهاب إلى منزل صديقك حِين تشاء ، وَ لَن أمنعك من مشاهدة التلفاز مساءً ،
و سأروي لك قصتك المفضلة كل ليلة ، أعدك يا بُني ، فقط أجبني ، و سأكون لك ما تشاء !"
أدركت حينها بأنه لن يعود ، احتضنت ما تبقى لي منه ، احتضنت جثته و انفجرت بالبكاء ، أتت إليّ جارتي ، و بدأت بمحاولة تهوين الأمر علي ، أخبرتني بأن لا أسخط ولا أجزع ، أن ربنا فوق كل سماءٍ ولن يخذلنا ، أنه هو أعلم بحالنا ، و أنه سيكتب لنا ما فيه خيرٌ لنا ،
جاء عندها رجالٌ من الحي المجاور حاملين بقايا جثة رجلٍ لم يستطيعوا التعرف عليه ، طلبوا منّا أن نحاول التعرف عليه ، ذهبت عندها لأراه ، كَان يصعُب التأمل في ملامحه ، مما جعل أمر التعرف عليه صعباً جداً ، ولكنني شعرت بوخزٍ في قلبي يخبرنني بأنني أعرف هذا الرجل مسبقاً ، نعم ! لقد رأيت هذا البنطال من قبل ، وهذه العينين ليستا غريبتين علي ، كلا ! أرجوك يا إلهي أن أكون مخطئة ، كم أتمنى أنني أتوهم ، و أن ما يدور في عقلي الآن ليس واقعاً أبداً ، أدخلت يدي في جيبه و إذا بي قد وجدت صورة طفلينا في حديقة المنزل ، نعم إنه هو ! هذا هو زوجي !
حينها جاء أحد رجال الثورة و بدأ الحديث بصوتٍ عال : " يؤسفني حقاً أن أخبركم بأنّا قد فقدنا أحد أهم أعضائنا اليوم ، كان شخصاً .. كان شخصاً قوياً جداً ، يزرع الأمل في حقول اليأس ، و يبدأ الصبر في لحظات الجزع ، كان شخصاً مختلفاً جداً ، ولكنه توفي ، فلنجعل لوفاته سبباً "
حينها لم تعد قدماي قادرةً على حملي ، فسقطت على الأرض ، و بدأ الناس بالهتاف لحديثه ، و أجهشت أنا بالبكاء وحيدة ، لا أحد منهم يأبه لزوجي ، لا أحد يكترث لوفاته عداي ، فقد علمتهم كثرة الفقد أن النصر هو الأهم ، علمتهم كثرة الفقد أن سبب وفاة القلوب هو إحساسها ، علمتهم أن الفقد يؤلم ، و أن البكاء له كان أشد ألماً !
،.
في ذلك اليوم ، وُضعت ابنتي في قائمة المفقودين ، و وضع ابني و زوجي في قائمة القتلى الطويلة جداً ، مازلت إلى يومنا ذا مقتنعةً بأن الشعب سينتصر ، أن الظالم سيُقتل ، و أن دمائه ستسفك ، وَ لكنني فقط أخشى علينا من حلمٍ تمنيناه ولم يتحقق ، حُلمٍ كتبناه على أقمشةٍ تظاهرنا بها يومياً " نُريد وطناً أفضل لأبنائنا " فرحل الأبناء وَ مَات الوطن !
،.
+ كان زوجي يخبرني بأنه سيجعل من وفاة القتلى شيئاً يذكر على مر السنين ، و هاهو الآن سيذكر و في ذات الخبر معهم هو و العديد من الباقين !
+ اليَوم سأنضم إلى العديد من الرجال خارجاً ، س أتعلم التصويب و إطلاق الرصاص ، فقد علمني واقعي بأن البشر لن يتواجدوا لبعضهم حين الحاجة إلا لحاجة ، علمني واقعي بأن الحكومات ستصمت لظلمنا إلى أن يمسّهم ، علمني واقعي أن الشعب السوري تُرك وحيداً في مجزرةٍ تاريخية ،
+ ترى ماذا سيكون عُذركم لأبنائكم حين يسألونكم عمّا حدث لبلادي ؟ ماذا ستجيبون إن سألوكم أين كنتم يومها ؟ بِربكم أي عُذرٍ سـ تختلقون ؟!
|
|